العرافة - سمير خضر خليفة

quote="سمير خليفة"]

الصمت الرتيب، وسكون الليل يشرعان أبواب الذاكرة لهذا الغريب القادم من ريف الفقر إلى مدن الأحلام، ليجد نفسه كالحالمين من قبله في حي فقير يقبع على هامش المدينة والذاكرة. مضى عام على وجوده في هذا المكان، وما زال مسكونا بغربته.
من مكان جلوسه على الأريكة في غرفة المعيشة قرب النافذة هاربا من النظر إلى جسد زوجته المستلقية على السرير، ومن خلال باب غرفة النوم كي لا يوقظ غرائزه المكبوتة خوفا من عدم استجابتها كعادتها منذ أكثر من شهر، ويعود النقاش والجدال العقيمين والمبررات الغير مقنعة, وإن رضخت لرغباته ستكون جسدا بلا روح فيقتل حلمه الريفي بأن بنات المدينة أقدر على تدليل و إسعاد الرجال . فيهرب من نافذته مع أحلامه وآلامه، ومع خيوط الصباح الأولى هده التعب فغفا على الأريكة حتى أيقظه منبه الساعة، فنهض متكاسلا. أعد قهوته وشربها وحيدا. استوقفه صوتها عندما هم بالخروج، وأتت طلباتها وأوامرها لتزيده غما, صفق الباب من خلفه، وخرج هائما مع همومه وهواجسه ولقمة العيش التي لا ترحم الحالمين أمثاله .
اجتمع عمال الورشة كعادتهم بجلسة الشاي الصباحية شحوب وجهه دفع وكيل الورشة أبو العبد ليقول:" أنت متعب يا سعيد هل أسجل لك إجازة مرضية؟ "
رد شاكرا وقال: الأمر لا يحتاج إجازة .
ما أن لاحت الغجرية من بعيد يسبقها صوتها المعهود حتى علق أحدهم" عند جهينة الخبر اليقين" , ومشكلتك ليس لها إلا الغجرية , زجره أبو العبد فصمت. اقتربت الغجرية وألقت تحية الصباح فجاء الجواب جماعيا. دعاها ابو العبد لشرب الشاي فلبت الدعوة كعادتها, ناولها سيجارة فأشعلتها، وسحبت نفسا طويلا تبعته برشفة من الشاي، ثم أخرجت الدخان من فمها وأنفها بكثافة، مما دفع ابو العبد للتعليق ممازحا: "لا يتقن هذا إلا حشاش ابن حشاش" ضحكت الغجرية فسرت عدوى الضحك للجميع عدا سعيد، فبادرته ما بالك وكأنك تحمل هموم الدنيا فوق رأسك "هونها بتهون أبو السعود" , فلم يرد وكأنه لم يسمع التعليق. مالت برأسها نحو أبو العبد وتهامسا ثم طلب من العمال البدء بالعمل. انصاعوا لأوامره تململ سعيد للوقوف فقال له أبو العبد أكمل سيجارتك فلغجريتنا كلام أريدك أن تسمعه لا تعارضني هذه المرة. وأقسم أنه من سيدفع الأجر للغجرية. تردد سعيد قليلا لكنه انصاع لرغبته محبة واحتراما. سريعا أخرجت الغجرية من جرابها منديلا مزركشا بالرسوم والرموز، وفرشته على الأرض ثم أخرجت بعض الأصداف الصغيرة التي يسمونها الودع .وضعتها بين كفيها وتمتمت فوقها ببعض الكلمات المبهمة، وقربتها من وجهه وطلبت منه أن ينفث فوقها. أعادة الحركة عدة مرات ومع كل مرة كان يزداد انفعالها، ويرتفع صوتها حتى شدت انتباهه تماما, فنادت بأحد الأسماء الغريبة، وألقت ببعض الأوامر ورمت الودع . حركات استعراضية تجيدها بمهارة مستعينة بتعابير وجهها لتؤثر على سعيد الذي لم يحرك عينية عن وصورة وجهها, بدا كفريسة مرعوبة تنتظر يد القدر لإنقاذها بينما أصابع سعاد تقلب الودع ، وبصوت ناعم ومطمئن قالت: خطوطك سهلة القراءة لأنها واضحة كقلبك الطيب. سادت لحظات من الصمت قبل ان تشرع بقراءة طالعه. وضعك المادي سيء ولكن الفرج سيأتي بعد إشارتين. مشاكلك سببها النساء. عادت لصمتها ثم صفرت بشفتيها تعجبا و زممتهما مع تغيير بإيقاع الصوت، ومعالم الوجه الذي بات لا يفسر. شدت له أعصابه إلى حدود عتبة الوجع. أغمضت عيناها، وبدأت تلوح برأسها مع أنات تأس جريحة، أضافت للمشهد بعض الموسيقى ليزداد إثارة, وحين أدركت أن سعيد تماهى مع كل حركاتها، وانفعالاتها وانقاد لهواها. انتفضت فجأت وطلبت من ابو العبد الابتعاد لخصوصية الموضوع , فلبى طلبها.
قالت لسعيد : اختر ثلاث ودعات وضعها في كفي ففعل ما أمر به كرجل آلي أعادت باقي الودع لجرابها ثم تمتمت فوق ودعاتها الثلاث بعصبية ظاهرة , قربتها من فمه وأمرته أن ينفث فوقها لمرة واحدة , تردد قليلا , ثم استجاب بعد أن حثته بنظرة قاسية , وألقت الودع على المنديل. وضعت يدها على رأسه وهمست بتأسي فلتعلم أن الله يحبك. وما أنا أمامك الآن إلا بإرادة الله فهو الذي ساقني إليك لأكشف لك المستور، وأزيل الغشاوة عن عينيك. اسمعني جيدا الآن فما سأقوله لك خطير جدا ويتوقف عليه مستقبلك أنت وعائلتك: إن المرأة عقرب، وأبناء العم هم السم, احذر من الغدر, وليكن الله بعونك.
بيان مقتضب ألقته على عجل وانسحبت تاركة سعيد خلقها بحالة لا يعلمها إلا الله , يهيم في عالم من عوالم الجنون والهذيان . مضت عدة دقائق حتى عاد أبو العبد ليجد صديقة فاغرا فاهُ وعيناه شاخصتان بالكاد يلتقط أنفاسه والعرق يندي جبينه وفي عينيه دمعة تترقرق دون أن يذرفها . هزه بعنف فأفاق من ذهوله ساعده على الوقوف، وقاده إلى خزان الماء. وضع سعيد رأسه تحت الصنبور، وفتحه فارتجف عندما لامس الماء البارد رأسه. رفع رأسه بعد لحظات، ونفضه كأنه يخرج شيئا من رأسه. استند بظهره إلى الخزان وجفف شعره بكوفيته المدلاة على كتفيه. لم يترك له أبو العبد فرصة هذه المرة وبادره مباشرة أمرا:" يجب أن تعود للبيت وأن ترى طبيبا فوضعك لا يطمئن" .
بدا طريق العودة طويل هذا اليوم كأنه بلا نهاية , فحياته تمر أمامه كشريط سينمائي , توقف أمام كل مفصل من مفاصلها , لكن وجدانه المتأجج ووصايا الغجرية حظا خياله لإعادة صياغة الأحداث من جديد , كما النظريات التاريخية يعاد صياغتها مع كل اكتشاف جديد, وكواثق من نفسه هز رأسه متمتما : ابن العم ..... نعم ...... نعم إنه ابن العم. لقد صدقت الغجرية، فهو من حدد المهر.....وهو من وضع شروط الزواج . ...مع أنه أصغر من أخيها وبوجود والدها ووالده. لم أزر خطيبتي يوما إلا ووجدته هناك ...... أغلى هدية تلقيتها بمناسبة الزواج كانت منه .... دعواته المتكررة لنا وهداياه الثمينة. نعم لقد صدقت الغجرية" إن الأقارب عقارب"، وهذه اللعينة كم كانت تحثني دائما على دعوته. هذه الأكلة يحبها... هذه الأمسية ينقصها خفة ظله... ودوما تبرر أنه لا يقصر معنا. وكم كانت ترجوني إذا رزقنا الله ولدا أن نسميه باسمه محبة وردا للجميل . يهز رأسه ويتنهد. إذا كانت أمنا حواء قد أخرجا أبانا آدم من الجنة لأجل تفاحة اشتهتها , فلماذا لا تبيعه من أجل رغباتها ونزواتها. مع كل خطوة خطاها كان يفقد شيئا من عقله وإنسانيته. وما أن دخل من الباب حتى ناداها متناسيا أنها أخبرته بزيارتها لبيت عمها منذ الصباح , ودخل غرفة النوم عله يجد شيئا يرضي به جنون أفكاره. عاد إلى غرفة المعيشة خال الوفاض إلا من خيبته. جلس على الأريكة هائما مع خياله المريض، وجنون أفكاره.
دخولها المفاجئ بطريقة هستيرية مع نحيبها، ودموعها وهلوستها باسم أخيها المسافر جعله يقف مسمرا عاجزا حتى عن السؤال. جثت قرب الهاتف واضعة يدها على السماعة, هلوسة وألغاز وابتهالات, رن جرس الهاتف فتلقفت السماعة، وبدون مقدمات أرجوك طمئني لماذا طلبت أن تكلمني في البيت، فقد أخبرتك أن عمي في السوق" أقبل قدميك" أخبرني الحقيقة. ما هو وضع أخي الآن، ومن الحديث كان واضحا أن الذي بالطرف الآخر كان يحاول تهدئتها وطمأنتها
- قلت لي أنه سيكلمني أعطه السماعة الآن ..
- قل للطبيب أريد سماع صوته .... صارخة أريد أن أسمع صوت أخي , لحظات تهلل وجهها وغمرته الدموع ..... تحمد الله وتشكره لا بد أنها سمعت صوت أخيها, خفت حدة صوتها وما أن قالت يا ابن عمي وكررتها حتى انهار سعيد وألقى بجسده على الأريكة واضعا رأسه بين كفيه مع أنات جريحة فقد نسي أن ابن عمها مسافرا أيضا، وجاءته الأخبار متتابعة لتزيد من كربه وألمه , فها هي بصوت الرجاء والتوسل تقول أسألك بالله يا ابن عمي وبحق الحليب الذي أرضعتك إياه أمي فيجعلك أخي الذي أحبه أكثر من أخي , برحمة أمك التي ماتت لتهبك الحياة ولم تر صورة وجهك , ما هي حالة أخيك أرجوك أن تخبرني بصدق .
لم ينتبه لها وهي تضع السماعة حمدت الله وشكرته , ثم التفتت نحوه وكأنها لم تره عند دخولها , نهضت وتوجهت إليه , داعبت شعره قليلا وحاولت رفع رأسه، فأشاح بوجهه عنها ثم انصاع لرغبتها وإصرارها , فغرت فاها فهذه أول مرة ترى دموع زوجها منذ أن تعرفت عليه ضمته إلى صدرها بحنان , نعم هذا أقصى ما كان يحتاج إليه الآن , همست وكأنها لا تريد لأحد سواه أن يسمع ما تقول : يا أغلى من روحي يا أعز الناس هل حقا أنك تحب أهلي من أجلي , أقسم أن دموعك الغالية هي دين في عنقي يا حبيبي , وأعلم أني كنت مقصرة معك في الفترة السابقة , وأمسكت بكفه ومررتها على بطنها متسائلة بدلال ألا يستحق هذا بعض التضحية منك , ولكن أخبرني ما الذي أعادك في مثل هذا الوقت للبيت , لا بد أنه حدس المحب, أليس كذلك, بصوت كسير إنه ليس قلبي بل العرافة يا حبيبتي , لقد أخبرتني العرافة لم تدع له مجالا ليسترسل بالحديث , قاطعته هل هي الغجرية التي أخبرتني عنها , أرجوك يا حبيبي أن تدعو هذه المباركة لزيارتنا فأشكرها.
مبتسمة......... لتقرأ لي طالعي .[/quote]

[color=darkblue]اخي الكريم قصتك جميلة واسلوبها جميل وما تحمله من احداث فيها تتطابق الواقع وتطرقت الى موضوع العرافة وعالجت موضوع شائع بين الاوساط الناس
حيث اصبح امرا يهدد امن واستقرار الناس في قالب يوحي بالدقة في اختيار الكلمات
اشكرك اخي الكريم ونتظر الجديد تقبل تحياتي [/color]